عُرف عن أمريكا أنها إذا ارادت خوض حرب متهورة انتخبت رئيس جمهوري، وأكبر مثال على ذلك غزو امريكا للعراق 2003، ودعم ترامب للحصار على قطر 2017 والدخول العسكري والعبث من خلالها بالبنية الطاقية الإيرانية ، مايحدث في الولايات المتحدة الآن ورغبة ترامب في تحويلها إلى دولة قوية مارقة ومتهورة،يجعلنا نتسأل هل آن الأوان لتغير النظام العالمي ؟ هل تعجز أمريكا الخاسرة في حرب الطاقة وأنابيب الغاز، الخاسرة عسكرياً في حروبها ، الخاسرة قيمها الإنسانية وديمقراطيتها بدعمها الاحتلال الاسرائيلي ، عن حماية مكانتها العالمية السياسية والاقتصادية ؟ هل تهدم امريكا النظام العالمي الذي بنته لتجعل التكلفه باهضة على القوى العالمية الجديدة؟ هل ستواجه القوة المارقة الأمريكية القوى في النظام العالمي الجديد بالتهور والرعونة والعزلة على الذات ؟!…
لم يكن صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة عام 2017 مجرد حدث سياسي
عابر، بل كان بداية لتحول عميق في التوجهات الأمريكية تجاه العالم، فقد تبنى ترامب
رؤية تقوم على الانكفاء الداخلي، وتركيز الجهود على قضايا الولايات المتحدة المحلية
بدلاً من الانخراط المستمر في شؤون الخارج، هذا التوجه الذي جسّده شعار “أمريكا
أولاً" وضع نهاية لفترة طويلة كانت فيها واشنطن تلعب دور القوة العالمية الحامية.
خلال ولاية ترامب الأولى، بدأت تظهر رغبة هذا التقوقع تدريجيًا، فقد انسحبت أمريكا
من بعض الاتفاقيات الدولية، وخفضت من وجودها العسكري في مناطق حساسة، وأعادت ترتيب
أولوياتها بما يتماشى مع مصالحها الداخلية، غير أن هذا التحول لم يكن مؤقتًا، بل
كان أساس لنمط استراتيجي مستمرتجاوز فترة الرئاسة الأولى لترامب وامتد إلى عودته في 2025.
ما يلفت النظر هنا؛ أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض جاءت مصحوبة
بتأكيد أقوى على فلسفة العزلة اقتصادياً وسياسياً ، إذ لم يعد التقوقع خيارًا مرحليًا كما
كنا نعتقد، بل أصبح هوية سياسية ثابتة للولايات المتحدة يحاول ترامب جاهداً ان يكرّسها ويسعى لتحقيقها
في فترة حكمه الجديدة، فقد تراجعت الولايات المتحدة بشكل أوسع عن لعب دور “الشرطي
العالمي”، وفرضت على حلفائها تحمل عبء الدفاع عن أنفسهم بدرجة أكبر من أي وقت مضى.
بالنسبة لدول الخليج يُعد مثّل هذا التحول تحديًا عميقًا، فقد اعتادت دول مجلس
التعاون الخليجي على شراكة استراتيجية راسخة مع واشنطن، ترتكز على حماية أمن
المنطقة وردع التهديدات الإقليمية، ومع تغير المعادلة الأمريكية وتأثير ذلك على وضع
أمريكا في النظام العالمي قد تجد هذه الدول نفسها مضطرة إلى مراجعة تحالفاتها
وسياساتها الأمنية والاقتصادية بعمق!
في نظري، اذا لم تتوقف تداعيات التقوقع
الأمريكي عند حدود الانسحابات العسكرية والاقتصادية والمناخية والنووية ، واستمر
ترامب في محاولة هدم النظام العالمي الذي بنته أمريكا اقتصادياً وسياسياً، سيمتد
هذا التأثيربعيداً ليقلب موازين القوى الإقليمية والعالمية ،وستكون الحاجة الخليجية
لبناء تحالفات جديدة وقوية ملحة جداً ، سواء كانت هذه التحالفات مع قوى دولية كبرى
مثل الصين وروسيا والهند ، أو مع قوى إقليمية مثل إيران أو من خلال أضعف الإيمان
وهو تعزيز العمل الخليجي المشترك لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية بشكل أكبر
وأكثر جدية .
إن ماينتظرنا واقع جديد تحدياته كبيرة، إلا أنه في ذات الوقت هذا
الواقع قد يتيح فرصًا غير مسبوقة امام دول الخليج لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية،
فمرحلة الاعتماد الكلي على الحماية الأمريكية قد ولّت واتفاقية كوينسي واخواتها أكل
عليها الدهر وشرب ، وحلّت محلها ضرورة منطقية تفرض على الخليج التوحد السياسي
والعسكري والاقتصادي ، و بناء منظومات دفاعية واقتصادية متماسكة قادرة على الصمود
أمام التحولات الإقليمية والدولية.
خلاصة القول، أن سياسة ترامب في فترتي حكمه
الأولى والحالية لم تقتصر على إعادة تعريف الدور الأمريكي عالميًا ، بل نلاحظ تخلي
أمريكا عن دورها في النظام العالمي لتفرض بذلك واقعًا جديدًا على حلفاء الولايات
المتحدة، وعلى رأسهم دول الخليج. هذا الواقع يتطلب من دول الخليج أن تتحرك برؤية
أكثر استقلالية، وتبني استراتيجيات تضمن أمنها واستقرارها بعيدًا عن الاعتماد
المطلق على قوة واحدة، مهما بلغت قوتها ونفوذها.